كتب محمود جمعة
اعتمدت فى رأيي التالى مجموعة من الرسائل المنفصلة المتصلة للكاتب و هي ( قلبى الطفل ، إلى جدتي يرحمها الله ، إلى أبي يرحمه الله ، إلى أمي يرحمها الله ، إلى صديقي دكتور د. علاء حراز)
و سبب العنوان أني أري أن صالح السيد حين يكتب مثل هذه النصوص يختصر جبلا فى كبسولة صغيرة ترى من أول وهلة أنها سهلة البلع و لكن حين المحاولة تكتشف أنها تقتحم داخلك و تملأك بالتخمة و تنزل إلى جوفك ببطء شديد و كأنها تخبرك أن تستعد و تتجهز لابتلاعها
لذا عليك أن تتجهزعندما تصطدم بكتابات صالح السيد ، و أن تكون متيقنا من أن هناك صدمة آتية لا محالة ، و أنا أعبر فى هذا عن نفسي كقاريء ضعيف و متلق لا يصل إلى بطن الشاعر بسهولة.
و حين أقدمت على قراءة رسائله القصيرة الطويلة وضعت صفة الشاعر جانبا و عكفت على قراءتها كقاريء و ما قرأت كان على قدر من البساطة التى تدفعك إلى إعادة القراءة مرة تلو أخرى كى تصل إلى غاية النص و تتأمل بنيانه و تراكيبه و واحة التصوير و الاستعارة فى كل رسالة .. و ابشرك و أحذرك من بلاغة الصور الشعرية و الاستعارات و خصوصية المفردات التى يستخدمها فى تركيب صوره الخاصة جدا.
و أنا أؤمن أن الفرق الجوهري بين الشعر و النثر هو الصور الشعرية و لعل هذا ما جعلنا نطلق على النص الشعري الحديث بالقصيدة النثرية فهو نثر يحوى كم هائل من جميل الصور الشعرية و الاستعارات..
و في رسائل صالح السيد وجدته لا يلقى بالا لبدايات النص او ما يسمى بالاستهلالة التى كثيرا ما يستخدمها الشعراء كدعوة للقاريء لدخول عالم النص ، اما صالح السيد فيلقى بالقاريء فى سراديب النص من أول سطر بما يجعل القاريء مجبرا على السير فى هذه السراديب بحثا عن مخرج فلا يجد مخرجا حتى يأتيه المخرج من تلقاء نفسه بنهاية النص ..
و نستعرض بعضا من بدايات النصوص المذكورة
1
كان قلبي الطفل
يكدّس المحبة تلو الأخرى في لفافة زرقاء
يودعها قارعة الطريق
2
الجدّات يستحضرن العالم طازجًا من ثدي الحكايات
كانت جدتي تقول :
الليل أصله أخضر
3
صموتٌ أبي
لكنه نشيد النخيل
كلما صدح النهر بالموال
تساقط قلبًا طريًا
4
“عيناه غارقتان في المحبرة
فكيف له أن يرى رأس الدمعة ” ؟!
………………………
………………………
كلما تأمل قلبه الصافي
تساقطت رؤوس على جانبيه
و حين تلتقى بالكلمات فى نص من النصوص يدهشك بساطة اللغة و يجعلك تعتقد فى سهولة الكتابة ، تماما مثلما تشاهد فيلما سينمائيا للأبطال الخارقين مثل الرجل العنكبوت أو سوبرمان أو غيرهم ، و تجد انه يستطيع أن يفعل كل شيء بسهولة و يسر ، و يصور إليك المشهد أنك أيضا تستطيع فعل ما يفعل ، فالموضوع بسيط ، فهو بسهولة يرفع حافلة مليئة بالناس ، أو يلقى بصخرة عظيمة إلى عنان السماء.. الخ
إلا أنك حين تحاول الكتابة بهذه الكيفية تصطدم بأنها عصية عليك ، و هذه هى القدرة التى يمتلكها صالح السيد و يمارسها فى النص، بل و الأكثر من ذلك حين تتعمق فى الكتابة تجده فى دهاء يمارس هوايته فى النقد أثناء الكتابة ، و ينتهى إلى أن يختبأ فى ركن قصي منتظرا فريسته – الناقد – حتى يمطره بنظرياته النقدية التى مارسها أثناء الكتابة .
صور و استعارات
– المحبة الزرقاء التى ينبت لها ريش أبيض تحلق به فوق البيوت و الغيطان و تعانق به أقدام الفلاحين
كلما مرت عليها النسوة في قريتنا الطيبة
ابتهجن بها
وهتفن من أعماقهن: ” عوافي “
فينبت لها ” ريش” أبيض
تحلق فوق البيوت والغيطان
– العالم الليلي الطازج الذى تستحضره الجدات من ثدي الحكايات و لأنه طازج يتلون باللون الأخضر ، و ترى مزمار الحكاية الذى يرنو و هو يسبح وحيدا فى لُجة الاخضرار
الجدّات يستحضرن العالم طازجًا من ثدي الحكايات
كانت جدتي تقول :
الليل أصله أخضر ….
قولي لها تكمل
لكن الجدة تغفو على بساط الحكاية
بينما أسبح وحيدا في لجّة الاخضرار
ومزمار الحكاية يرنو
سادرا فى صمته
– نشيد النخيل الذى يساقط قلبا طريا فتفترش الأرض باليتامى , و هذا التناص العذب بين الاسطورة و النص
صموتٌ أبي
لكنه نشيد النخيل
كلما صدح النهر بالموال
تساقط قلبًا طريًا
فافترشت الأرض باليتامى
والمكلومين
– تكرار اللفظ مع اختلاف الصورة الشعرية حين يقول – و أنا أنتظرك يأمى – فى ذكرها الاول الذى يصور المكان – مكان الانتظار – فى الشوارع الثاوية و البيوت التى تأوى إلى سعف النخيل , ثم يأتى مرة أخرى بنفس المفردات -و أنا أنتظرك يا أمي – لينقلنا إلى زمن الانتظار .. مذ صعدت وريقة صفراء إلى كهف الريح …
وأنا أنتظرك يا أمي
كما الشوارع الثاوية في قصعة الصبّار
والبيوت التي تأوي إلى سعف النخيل
.. وأنا أنتظرك يا أمي
مذ صعدت وريقة صفراء إلى كهف الريح
وانشقت الأرض عن صخرة شمطاء
وهطلت الأسماء في وادي النسيان
و كذلك فى نص رسالته إلى الدكتور علاء حراز حين يقول الأعمى و تقول العجوز ، إلا أنه فى هذه الرسالة يأتي بجديد فى نهاية النص ببلاغة شديدة فى قوله هو لصديقه فلم يذكر – و قلت- بل تجاوزها ليعطي دلالة القرب الشديد من الصديق ” عش كما أنت .. مثلما أنبأتك الأحلام “
قال الأعمى وهو يصافح وجه المسيح :
يا لها من شجرة مباركة
وقالت عجوز وهي تستظل بأوراقها:
يا لها من أم رؤوم
……………..
……………..
السماء نجوم
والأرض حصى من نغم أصيل
عش كما أنت
مثلما أنبأتك الأحلام
و للكاتب علاقة وثيقة بالألوان التى يستدعيها ليحملها بمعان و وظائف خاصة به ، ثم يعود ليستخدمها بتركيز شديد فى موضعها داخل النص
لفافة زرقاء ،” ريش” أبيض” ، الليل أصله أخضر ، أسبح وحيدا في لجّة الاخضرار ، مذ صعدت وريقة صفراء إلى كهف الريح ، على نتوء الحرف الأخضر…
الفعل و الزمن فى رسالة إلى الجدة
قرأت هذه الرسالة عدة مرات لأجيب عن سؤال قفز إلى خاطرى من القراءة الأولى و هو :
لماذا لم يستخدم الكاتب ضمير الغائب داخل القصيدة بدلا من تكرار ذكر الجدة؟
فهو يقول :
الجدّات يستحضرن العالم طازجًا من ثدي الحكايات
ثم يعود من السطر التالى إلى نهاية النص بذكر الجدة دون الاشارة لها بضمير الغائب
كانت جدتى تقول
لكن الجدة تغفو على بساط الحكاية .. (و كان يمكن صياغتها بضمير الغائب مثلا “لكنها ” بدلا من “لكن الجدة”)
ومن حفر بئر الدموع يا جدتي؟ .. ( و كان يمكن حذف المنادى كما فعل فى السطر الشعرى التالى)
والجدة لا تصحو .. (و لماذا لم يقل ” و هي لاتصحو “)
و خلُصت فى النهاية إلى انه يرغب فى استدعاء الجدة فى النص ، و لا يرغب فى أن يغيبها عن عالمه الحالى ، خاصة و أنه يرغب فى استحضار الزمن الحالي كما يتضح من الأفعال المضارعة التي استخدمها على طول النص
أشرأب ، أجلس ، وأهمس ، تتدلى ، تغفو ، أسبح ، أستحلب ، تصحو ، يرنو …
و استوقفنى ايضا فى هذه الرسالة استخدامه للفعل بصيغته الانثوية حين يقول ” يستحضرن” بدلا مثلا من “تستحضر” و تبينت أن دلالة الفعل هي استمرارية الفعل ،و هو فعل أنثوى بحيث يستطيع استحضار العالم من ثدي الحكايات ..
و ايضا الافعال مثل ” أشرأب” دلالة على المعاناة فى محاولة الوصول إلى هاتين الشفتين المعجونتين بالسحر
و الفعل “أستحلب” بدلا من “أحلب” لتأكيد نفس الدلالة فى استمرار الفعل.
و اعتقد أن صالح السيد انتظر طويلا كي يلقي علينا برسائله التي تفيض شعرا و نثرا و هذا يتفق معه كأنسان محب للغة العربية و الأدب بكل صنوفه، و ما أراد يوما أن يقدم على شيء من هذا إلا و أن تكون هذه الكتابة متميزة و بديعة .
هذه قراءة سريعة لهذه النصوص و ربما أعود للتفصيل بدراسة كل نص على حدة إن شاء الله.
و ما أراه اليوم هو بحق إبداع متميز ينبغى ألا يترك دون قراءة متأنية و محبة .