عبقرية أبو النجوم
” مر الكلام زي الحسام يقطع مكان مايمر /أما المديح سهل ومريح يخدع لكن بيضر / والكلمة دين من غير إيدين بس الوفا ع الحُر “
أتذكر المرة الأولي التي استمعت فيها إلي أغاني الشاعر الكبير الراحل أحمد فؤاد نجم من خلال صوت الشيخ إمام الشجي علي شريط كاسيت متهالك من كثرة الاستخدام ، كان ذلك أواخر السبعينيات من القرن الماضي ، بعد أحداث يناير الشهيرة ، كنت وقتها مهتما بقراءة وكتابة الأشعار العاطفية الساذجة بحكم طبيعة المرحلة العمرية ، كان لهذا الكاسيت الأثر الأكبر في تحول نظرتي إلي الشعر والحياة ، أصبحت كالهائم علي وجهه ليس لي مقصد سوي البحث عن أشعاره من أجل حفظها ومحاولة تقليدها ، ثم بدأ تعرفي علي قامات أخري في شعر العامية أمثال بيرم التونسي الذي سبقه في المعاناة بانحيازه الصادق إلي الإنسان والحرية ونقده اللاذع للحاكم الديكتاتور ، كما سبقه في دفع ثمن جرأة طرحه الإبداعي من نفي وتشرد ، تعرفت أيضاَ علي تجربة الشعراء الكبار فؤاد حداد ، وصلاح جاهين ، والأبنودي ، ونجيب سرور ، وغيرهم من كبار شعراء العامية ، لكن ظلت أشعار نجم هي الأكثر استقرارا َ بذاكرتي حتي الآن ، كما ظلت هي المحرض الأول بداخلي علي الثورة والتمرد ،كنت أتطلع أن أحيا بوجهاَ واحد في القصيدة والحياة كما كان يحيا هذا الشاعر المصري الأصيل الذي يحمل في ملامح وجهه وشعره خشونة المصري ورقته المفرطة، طيبته ودهائه ، بساطته وحكمته ، وكم توقفت عند هذا الملمح الصوفي الشعبي المكتنز في قصائده المسماه بالسياسية ” بانادم عليكم ياأهل الطريقة / وجوايا شوق للغزل والحقيقة / وبرايا عالم مشعلل حريقة /فزعني ولسعني وكوي قلبي كي / الله حي الله حي وسع سكة يمر الضي ” قصائد نجم في مضمونها قصائد إنسانية كتبت لتمجد الإنسان وحريته فمن الظلم أن تصنف كقصائد سياسية يتلاشي بريقها بزوال الحدث السياسي ، قصائد تحمل بداخلها مقومات البقاء في الوجدان الشعبي عبر الزمن كما كان لأشعار إبن عروس مقومات هذا البقاء ، فنجم هو الشاعر الشعبي المتحدث بإسم السواد الأعظم من الناس ، هو المستخلص لثمار الحكمة من بساتين العامية المصرية والتي كان يري أنها أكبر من أن تكون لهجة وأكبر من أن تكون لغة فهي الروح المصرية الحية دوماَ بتراثها ولحظتها . لذلك كان هو الرافض دائما َلحزلقة المثقف وللغته البعيدة عن الواقع ” يعيش المثقف علي مقهي ريش/ يعيش يعيش يعيش /محفلط مزفلط كتير الكلام / عديم الممارسة عدو الزحام / بكام كلمة فاضية وكام إصطلاح / يفبرك حلول المشاكل أوام “
تكمن عبقرية نجم في بساطة خطابه وعمقه في آن واحد فهو السهل الممتنع في العاميه المصرية ، ليس فقط انحياز الشاعر إلي قضايا وطنه ومجتمعه والانشغال بالهم العام للمهمشين والفقراء هو مايضفي عليه هذه العبقرية لكن حجم موهبته وذكائه الفطري وتلقائيته وثقته بخطواته بجانب خطوات الجماهير والعمل من أجل واقع أكثر حرية ورخاء في بلد تمتلك عوامل الوصول إلي ذلك من بشر وتاريخ وجغرافيا ، بالإضافة إلي قناعة الشاعر المطلقة في قدرة الإنسان المصري علي تغيير واقعه إلي الأفضل فقصائد نجم كتبت من أجل التحريض علي تغيير الواقع ، بالطبع هو الشاعر المنحاز إلي الناس والواقف علي يسار السلطة تذوب ذاته الفردية داخل ذات الجماعة ليصبح صوتاَ لضمير العامة في مصر بل يمتد وهج أشعاره ليشمل الواقع العربي برمته فهو كما وصفه الشاعر العالمي لويس أراجون ” فيه قوة تسقط الأسوار ” وكما وصفه الناقد الكبير علي الراعي ” الشاعر البندقية ” وكما وصف هو نفسه بالفاجومي الذي ينطق لسانه بما داخل قلبه هو عبقرية مصر وشعبها ، الشاعر المبشر بالثورة والذي دفع ثمن مايقوله دون خوف أو امتعاض ، هو الناس والتاريخ والحكايات المليئة بالأساطير وهو كما أطلق عليه محبيه ” أبو النجوم ” الذي لايخشي في الحق لومة حاكم .
” علي صهد الأرض السمره / أنا أبويا النيل سواني / ممصوص وخشن من بره / زي الطين الأسواني / والخضرة في قلبي وقلبي / دايماَ علي طرف لساني / ولساني حصاني رماني / وتعبني كتير وأذاني / ياما خدني وياما وداني / من جولة في الحكايات “
حاتم مرعي