الريح تملأ الشراع ، الزورق ينساب مع التيار ..
كان يجلس القرفصاء فوق الحافة الأمامية مستندا بظهره إلي برميل تملأه مياه عذبة ..
يرى بعيدا السفن متناثرة فوق سطح البحر ، الأمواج تقاوم الزورق الشراعي المنطلق برفق ولكن لا توقفه ، يهتف به زميله من أقصى القارب فوق الدفة :
– يا ريت نوصل قبل العتمة ؟!..
– مش قبل العتمة !!.. قول قبل ما ترمى مخطافها ..
– مفيش فرق ..
– خايف يكون غيرنا سبقنا !..
– أنت غلطان !.. مقلتش لى على وصولها النهارده !..
– خفت تتراجع ومتجيش معايا ..
لم يرد عليه ، نظر أمامه إلي حيث تغرب الشمس بحمرتها القانية وراء الجبل الأزرق ، مشواره اليوم غير مشواره المستديم علي مر الأيام وراء الرزق !!..
مر صباه ، شبابه فوق صفحة الماء المالح ، بين هياكل البواخر ، رزقه فوق سطحها ، نصيبه من نصيب البحارة ، لياليه الباردة ، الحارة ، كلها فى الارتزاق فوق المياه بين السفن ….
يصله صوت صاحبه مرة أخرى :
– مقلتش لى .. إيه أخبار هناء ؟!!..
– مفيش حد حوالينا يسمعنا !!..
– قلت لك متزعقش ..
– متزعقش .. اسكت
– زى ما أنت عايز .. بلاش زعيق !..
يملأه الحنين ، يود الهروب ، لا يستطيع
، يشعر بكف تلامس كتفه ، يعود من
أحلامه ، ينظر ناحية صاحبه الذي وصل إلي جواره ووضع كفه فوق كتفه ، وسأل صاحبه :
– ليه بعدت عن الدفة ؟!!..
– الدفة عارفه طريقها لوحدها !!.. عاوز
أعرف سبب حزنك ؟!..
لم يرد عليه فقط نظر داخل عينيه ، وسمع صاحبه يكمل كلامه وتساؤله :
– أنا كمان زعلان عشانك .. قلت لك من الأول اتجوزها !!..
لاذ بصمته ولم يعقب علي صاحبه ، هرب بنظرات عينيه إلي الأمواج حولهما ، يتمايل الزورق فوقها بهم ، مر جوارهما زورق بخاري سريع ، فتأتى موجة مرتفعة مندفعة خلفتها سرعته ، ويهتز قاربهم الشراعي بشدة فوق الموجة الهاربة ….
يتنهد ، يفكر في إجابة ، لم يعثر علي كلمات لها معنى لما سيقوله فيتطلع أمامه ، صفحة البحر تتماوج ، رغب بشدة في احتضان الماء ، أن يتمرغ داخله ، يغسل فيه أحزانه ..
يسمع صاحبه يستطرد بكلامه :
– هناء بتحبك ….
– مقدرش ألعب بحياتها …
– مفيش لعب ولا حاجه ، انتم بتحبو بعض ..
– إيه باقي لي من العمر ؟!..هي قدامها العمر طويل ..
– ملككم الحاضر ..
– والمستقبل نعمل فيه إيه ، بعدي عنها مقدر ومكتوب ..
– المستقبل يا أخي بيد الله !..
– أعشقها ، أحبها ، لكن خوفي عليها أكتر ..
– أنت اخترت غيرها ليه ؟!!..
– اخترت اللي من عمري ..
– غريبة !! ، يعني ذنب حبيبتك اللي بتحبك عمرها ؟!!..
– النصيب ..
– خلاص .. انساها ..
– نفسي وعاوز أنساها ..
– مش باين يا صاحبي .. أنت لا نفسك ولا عايز تنساها .. صدقني ..
مر حولهم زورق بخاري أكبر وأسرع ، اهتزت صفحة البحر بشدة ، تمايل بهما زورقهما الشراعي ، نهض الرجل مهرولا تاركا صاحبه حتي وصل إلى الدفة التي بدأت تحيد عن اتجاهها لولا أن لحقها ..
يتحرك فوقهما السحاب فيغطي الشمس الهاربة .. فاجأهما رذاذ المطر هابطا يلامس أمواج البحر.. الرجل يقبض علي الدفة بيمينه بينما يسراه تمسح بكفها حبات المطر من فوق صفحة وجهه وفكه ووراء عنقه
امرأته ( وفيه ) جففت قدميه من الماء الدافئ ، بعدها أحضرت أطباق العشاء ..
كان يشرب الشاي بعد العشاء عندما قالت وفيه :
– صاحبك سأل عنك ..
– قال إيه ؟..
– النورس توصل بكره في الليل ..
ساعتها انتفض لما قالته زوجته ، لم تلمح هي أو تشعر بارتعاشته ، بات ليلتها مسهدا يفكر ، يحلم بإبحاره فوق مركبه الشراعي في طريقه إلي النورس ….
يخرج من فكره وأحلامه ، يرجع إلي واقعه ممسكا بالدفة ، يشاهد تغير وجه البحر ، ارتفاع الأمواج وصخبها ، الماء المالح الهائج يرشه برذاذه ويغسل حبات المطر من فوق وجهه ، وهو يتشبث بالدفة ، يوجه زورقه الشراعي إلي حيث النورس ألقت مراسيها ….
يراها .. هناك بين هياكل البواخر ، فوق الأمواج تحت المطر ، كانت تتمايل على مرساها ، يعرفها .. باع لبحارتها ، اشتري من ربانها ، عمل فوقها .. صاحبتها اليونانية أحبته ، عشقته ، راودته ، لم يحبها يوما رغم طراوتها وحمرة جلدها ، لم يعشقها رغم ندرة نوعها ، وفات معها شبابه .. يهتف في صاحبه وهو يشير بإصبعه :
– هناك .. ورا الجزيرة الخضرة ..
يرد عليه صاحبه :
– منوره نورها من قبل الليل ما يخش ..
– يمكن عرفت وقالوا لها إني جاي لها !!..
ينظر صاحبه ناحيته تغطي وجهه الدهشة ويسأله :
– تقصد مين ؟!..
– اليونانيه ..
– أى يونانيه ؟!!..
– كاتينا !..
– بتخرف .. كاتينا ماتت من سنين .. افتكر ؟!..
نظر مذهولا إلي صاحبه، يتساءل:
– ماتت ؟!!..
يهمس غير مصدق :
– لا .. مش هي !..
يؤكد له صاحبه :
– أنت نفسك قلت لي ..
– أنت بتهزر ، تتوهني .. لسه عايشه ، كاتينا بعتت لي ، وافقت أنا على السفر معاها ..
– تسافر معاها ؟!!.. معقول ؟!..
– أيوه .. أهرب من عذابي ، أعيش ، أشعر بالدنيا الحلوة ..
— بتخرف أكيد !!..
– عشان عاوز أتمتع بالباقي من عيشي ، لا.. مفيش مخلوق يقدر يعارضني أو يقف قدامي!..
يعم الليل بظلامه ، السماء ملبدة بالسحب السوداء والرمادية ، تزداد أمواج البحر المعتمة عتوا ،
تتلألأ أضواء السفن الرابضة تتحدي الليل والطقس الكئيب ، وتمايل الزورق الشراعي الصغير مرة أخري بشدة ، وكانت البواخر أيضا تتراقص بمصابيحها المرتعشة ….
يقتربان بزورقهما من النورس ، يطويان شراع زورقهم ، السفينة النورس عالية شامخة مضيئة ،
الزورق بجوارها مثل ذبابه فوق ساق فيل ، يشد ساعديه وكفيه علي الدفة ، وتصل موجة مرتفعة، حملت الزورق فوق حافتها ، ارتفعت به حتى شاهدا ما فوق سطح النورس ، هربت الموجة ، انزلق الزورق مندفعا داخل دوامة الموجة الذاهبة ، صرخ الرجلان ، كان هناك فرق ضئيل لا يتعدي النصف متر يبعد زورقهم عن الاحتكاك والارتطام بجدار السفينة الشاهق ويتمزق زورقهم شر ممزق ، ترك الرجل الدفة ، تناول حبلا ثخينا بخفة ومهارة البحارة ، طوحه
دائريا فوق رأسه حتى يتمكن من قذفه ليعلق المخلب في طرفه بسطح الباخرة ، وصرخ فيه صاحبه :
– مجنون .. مجنون .. نبعد الفلوكة قبل ما تتفرتك !..
– هي منتظراني يا صاحبي ..
– أحلف لك مفيش حد منتظر .. بعد النوه ما تهدي نرجع لها !!..
– فات العمر يا صاحبي .. مش حضيعها تاني ….
يشع الإصرار داخل عينيه ، لا خوف ولا تردد ، يحاول صاحبه خطف الحبل منه ، أتت موجة عاتية كانت قادمة لا محالة ، يهتز القارب ، الرجل واقف يباعد ما بين قدميه ، ويقع صاحبه منكفئا في قاع الزورق ، وظل الرجل ثابتا يواجه النوة ، تحمل الزورق الأمواج المتمردة ، الرجل يطوح بعناد الحبل محاولا تثبيته بسطح النورس ….
***************
* المانبوطي/ أو الممبوطي : تاجر البحر .. اسم مشتق من اللغة الإنجليزية( مان بوت ) .. رجل القارب ..