قصة قصيرة بقلم..
الاديب / مجدي متولي
كان جالسا في صومعته الصغيرة لا يزيد حجمها عن 3×3 متراً .. دائماً يحلم بانتظام , كل فترة يراوده حلم جديد , وكل أحلامه تحققت , وما المهن التى اشتغل بها إلا أحلام تحققت , ولكنه لم يبالغ , لم يطمع فى تغيير حياته رأساً على عقب ولكن ظروفه فقط , جلس في استرخاء بعد أن رحب بي .. كنا نتبادل أطراف الحديث عن الدنيا واحوالها .. دخل النادل وألقى التحية في بشاشة ودلف خارجا .. راحت أصابعه تتحسس فنجان القهوة .. وأخر ما تبقى من اللذة سيجارة من التبغ أشعلها وهو ينظر إلى أعلى .. وحلقات الدخان تتطاير تلو بعضها البعض .. وأنا أحدق فيه .. اعتدل في جلسته , يستغرق نفسه , وتستغرقه المشكلات الكونية .. ثمة سؤال أمامه قائما كالمارد : لماذا تسيطر قوة الشر على الناس ؟
تمتم بكلمات كفيلسوف .. يشرح أزمة الثقة وانتهاء المعاملات بين الأفراد والشعوب .. وحدد نقطة الخطر في بؤرة النفاق اخذتنا برهة من الصمت لم تكن طويلة يراقب كل منا الآخر حركاته وسكناته نختلس النظرات كل حين وحين ..
أنا الآن هنا في صومعته الضيقة .. تحشرنا .. الجدران .. والأوراق المبعثرة .. وبعض الكتب تراكمت عليها السنون .. والشمس الساطعة الغافلة عمدا .. والزمهرير والقيظ المتتابعان عمدا .. الباب مفتوح على مصراعيه .. تشعر كأنك خارجه تسمع اصوات وصرخات واشياء أخرى لم اعرها اهتماما , اناس يعدون , يخبئون رؤوسهم داخل فكرة النجاة فتغوص أقدامهم عفوا في الحفر الغائرة المتربة الجافة .. اطل عليهم اضحك .. ارض جافة افريز خال من النبات يملؤه الغبار .. الشمس المهاجرة تقدح فتشق الزفت القائم .. هواء مغبر جاف يحرق الأشجار الهامدة .. ولما كانت عيناي تنظران فترى , ولا استطيع اغمض الطرف دوما , وجدتني مجبرا أن انظر إلى اعلى الحائط .. صورة له بملابس عسكرية تجمع معه آخرون , اطارها ذهبي بهتان يملؤه الغبار .. اعتدل في جلسته .. وتنحنح .. تنبهت له فابتسم مرحبا بي من جديد .. هززت له رأسي وبادلته التحية .. وعدنا نكمل ما بدأناه احتدم النقاش بيننا واتسعت دائرة الحديث .. وتعددت الاشياء واخذت اشكالا .. تناقشنا في الدين والسياسة حتى الاحداث التي تدور بنا وندور معها كالرحى .. بحلوها ومرها .. تارة نتفق .. واخرى نختلف .. ترك فنجان القهوة جانبا بعد أن رشف آخر ما تعلق به من رمق .. راحت نظراتنا تعبث هنا وهناك .. ملت بجسدي للأمام متسائلا : لماذا لصق باسمك لقب كابتن ؟! نظر إلى باستغراب ودهشة شديدين وعاد بالمقعد للوراء .. واخذ تنهيدة طويلة ثم قال : أنا عمري الآن 84 عاما مع هموم السويس بدأت مقاومة الاحتلال البريطاني مع الفدائيين منذ عام 1946 , وثورة 1952 , مع المقاومة الشعبية .. ثم حرب 1967 , مستخدما الشعر والأغاني تارة .. والمواجهة مع العدو تارة أخرى منذ ذلك الحين تولدت فكرة ” ولاد الأرض ” كونتها للعمل الحربي الميداني .. نظر في عيني ثم اردف : في عز البرد القارس كنا نفترش الارض ويلتف كل منا ببطانية .. وننشر كلماتنا ونطلقها كالرصاص في صدر عدونا . عاد النادل مرة اخرى ووضع فنجان القهوة ودلف مسرعاً .. امتدت اصابعه تتحسس الفنجان .. طويلة كخيوط الليل الأسود الحالك .. وبصيص من نور يعيد اليك الحياة من جديد ارتعشت يده وهو يرتشف الفنجان ويقربه الى فمه .. رشفة وأخرى راحت عيناه تحدق من جديد ينبس بكلمات ومعان ويطلق حقائق للتاريخ .. مد يده للأمام ينبهني قائلا : رغم حبي للشعر .. الا انني اقطع جزءا من وقتي امارس هوايتى المفضلة ” المصارعة ” قد حصلت على جوائز كثيرة اخرها لقب المملكة المصرية .. من هنا بات الآخرون من شعب السويس ينادوني بـ كابتن .. وهذا اللقب قريب إلى نفسي . تنفس الصعداء .. وهدأت ثورته وثورتي .. اذا كان على المرء ان يعلم فعليه بالبحث عن الحقيقة ربما يجد المعرفة .. كانت الشمس قد هدأت حرارتها .. وتناثرت المياة في الطرقات تخفف من القيظ .. راحت نظراتي تجوب المارة .. والقى فنجان القهوة جانبا بعد ان رشف آخر ما تعلق به من رمق .. شباب يعدون وقف كل منهم قائلا : اهلا يا كابتن .. بينما راحت يده تلملم الافكار والكلمات المبعثرة .